الحلم سيد الأخلاق
لا شك أن الإنسان في حياته يتعرض لضغوط من كل جانب، ففي عمله ضغوط، وفي بيته ضغوط، وفي تعاملاته مع الناس يشعر بضغوط تدفعه أحيانًا للغضب وللخروج عن المعتاد من أخلاقه، ولذلك أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم أن يتمالك نفسه في مثل تلك اللحظات قائلاً: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب».
الحديث إذن عن الحلم تلك الصفة التي امتدحها القرآن الكريم كثيرًا، وشدد على أنها من صفات الله جل وعلا، حيث تكرر وصف الله بهذه الصفة في نحو عشر مواضع: ﴿واللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، ﴿واللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، ﴿واللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا﴾، وقال جلَّ شأنه مؤكدًا على معنى صفة الحلم وأنها أساس من أسس تعامل الله جل وعلا مع عباده: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾.
بل إن القرآن شدد كذلك على أن الحلم من صفات أنبياء الله ورسله عليهم السلام حيث قال تعالى عن إبراهيم تحديدًا: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾، وقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، وامتدح إسماعيل عليه السلام قائلًا: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾.
هي صفة ربانية إذن، بها يسمو الإنسان فوق غضب نفسه والثأر لها، يعتاد الصفح والعفو، يتسامى فوق زلات الناس ملتمسًا لهم الأعذار، تمامًا كما كان يقول الأحنف بن قيس رحمه الله ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه. وقال أيضًا: احذروا رأي الأوغاد، قيل: ومن هم؟ قال: الذين يرون في العفو والصفح عارًا!
نعم، فكثيرون يرون في العفو والصفح انتقاصًا مِن أقدارهم، وخفة في أوزانهم أمام خصومهم، مع أن المتفضل بالعفو والصفح على الناس جميعًا هو رب البشر جل وعلا، والذي يملك تدمير خصومه جميعًا بكلمة واحدة؛ كن، ومع ذلك يمهل الله العصاة، ويعفو عمن يعود منهم إلى بابه، ويجزل لهم العطاء. أفلا نتأسى بأخلاق ربنا جل وعلا في العفو عن المسيء؟!
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب أروع الأمثلة في القدرة على ضبط النفس وعدم الغضب إلا في محله، وكان من أشد الناس تلمسًا للأعذار، فعن أنس رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بُرد نجراني غليظُ الحاشية؛ فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة. يقول أنس: فنظرت إلى صفحةِ عاتقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد أثَّرتْ بها حاشيةُ الرداء من شدة جبذته، ثم قال الأعرابي: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتَفَتَ إليه صلى الله عليه وسلم ثم ضَحِكَ ثم أمر له بعطاء.
وقد جاء في بعض رواياته عند أبي داود والنسائي: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فإذا قام قمنا، فقام يومًا وقمنا معه حتى لما بلغ وسط المسجد أدركه رجلٌ فجبذ بردائه من ورائه -وكان رداؤه خشنًا- فحمَّر رقبتَه فقال: يا محمد، احمل لي على بعيريَّ هذين فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تُقيدَني مما جَبَذتَ برقبتي. فقال الأعرابي: لا والله لا أُقيدُك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يقول الأعرابي: لا والله لا أقيدك. قال أبو هريرة فلما سمعنا قول الأعرابي أقبلنا إليه سراعًا، فالتَفَتَ إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: عزمتُ على من سمِع كلامي أن لا يبرَح مقامَه حتى آذن له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم: يا فلان احمل له على بعير شعيرًا وعلى بعير تمرًا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا.
أرأيتم حِلمًا أعظم من ذلك، رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، ثم هو رأس الدولة يتعامل بهذه الطريقة مع أعرابي لا يحسن الطلب ويسيء إليه صلوات ربي وسلامه عليهن ومع ذلك يقابل النبي الإساءة بالإحسان، ويعفو ويصفح، ويعطي ويجزل في العطاء!
كيف لا وهو القائل صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله»، وقال في الحديث الذي رواه أبو داود عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء.
وهو القائل صلوات ربي وسلامه عليه لأشج عبد القيس في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. فقال: أشيء تخلقت به أم جُبلتُ عليه يا رسول الله؟ فقال: لا، بل جُبلتَ عليه. فقال: الحمد لله، جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله.
ولأن الحلم لا يكون إلا في موقف يستدعي الغضب، ويستدعي رد فعل متعجل، فإن الله عز وجل يكتب لصاحبه الأجر ما لم يحاول الثأر لنفسه، حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: المستبَّان ما قالا فعلى البادئ منهما، مالم يعتد المظلوم.
قد يسأل الآن سائل ويقول: كيف لي بالحِلم وأن سريع الغضب بطبيعتي؟ وهل من وسائل تعينني على تحصيل هذا الخلق الرفيع خاصة مع توالي الضغوط من كل حدب وصوب؟!
وهنا أقول وبالله التوفيق: إن الأصل في تحصيل كل خير هو النية الصالحة التي يستحضرها العبد مبتغيًا بها رضا الله جل وعلا، ثم قبل ذلك وبعده وفي أثنائه الاستعانة بالله عز وجل، حيث لا توفيق إلا بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
ويأتي بعد ذلك مجموعة من الأمور لعل أهمها هو نظر الإنسان الدائم لعيوبه وذنوبه والانشغال بها، مما يجعله على الدوام منشغلًا عن الناس، مبتغيًا الأجر والمثوبة في كل فعل، تعظم في عينه سيئاته فيخاف منها، وتقل عنده حسناته فيزداد دومًا إقبالًا عليها، وبهذا يحلم على المسيء ويصبر على الجهول.
ومما يساعده كذلك لزوم صحبة الصالحين، الذين يذكرونه إذا نسي، ويسددونه إذا زل وأخطأ، وكذلك استذكاره لما أعده الله جل وعلا من حُسن الثواب لمن عفا وصبر، كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ينادى يوم القيامة لِيَقُم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح.
ويكفي أن الله جل وعلا وعد أهل الحلم والعفو والصفح بجنة عرضها السماوات والأرض. قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134].
فضيلة الدكتور شوقى علام
مفتى الديار المصرية